رغم كل ما تتعرض له من تهميش ومن انتهاك لحقوقها وحقوق شعوب بلدانها الأصل، لم تتمكن بعد الجالية العربية والإسلامية في فرنسا من تشكيل "لوبي" أو جماعات هوية ضاغطة قوية ومؤثرة في صناعة القرار، وفي الدفاع عن هذه الحقوق ضد الهجمة الشرسة التي تطالها.
وهي مع تعدد مشاربها الفكرية وانتماءاتها السياسية وغنى تكويناتها الاجتماعية، لم تجد بعد القدرة على التأطر في الكم الأفضل والهوية الأشمل والتعبير المنظم عن الذات من خلال الرأي والدور والمشاركة, ويعود ذلك لعدة أسباب ذاتية وموضوعية أهمها:
1- المرجعية: حتى اليوم، لم تتم صياغة مرجعية ثقافية مشتركة أو مؤطرة بشكل يسمح بتعريف واضح أو مقبول لـ"نحن". فهناك من يتبنى مرجعية دينية وآخر قومية إلى ثالث يحاول حصر انتمائه بالحدود الجغرافية لبلده الأصل.. إلخ.
" رغم وجود عوائق تحول دون تأطير الجاليات العربية والإسلامية فإن هذه العوامل لم تحل بالمقابل دون تكوين جماعات ضغط فرعية أكثر تماسكاً وانسجاماً، تحاول لعب دور سياسي رغم ضعف تمثيليتها وعددها " 2- الجوامع السياسية: هنا أيضاً تكمن مشكلة بنيوية ناجمة عن ارتباط المهاجرين والمنفيين العرب بأكثر من عشرين بلداً عربياً وإسلامياً، مع كل ما يحمل هذا الخلاف من تعارض وتقاطع بين اهتمامات هذه الدول وخارطة معارضتها السياسية وطبيعة السلطة فيها وعلاقتها بالمهاجرين منها.
3- الطابع غير الديمقراطي لمعظم البلدان المصدّرة لمكونات الجالية، بما فيه جملة التسهيلات المرتبطة بالولاء للسلطة السياسية والتعقيدات التي تنجم عن المعارضة لها.
4- التمزق الأيديولوجي والسياسي والثقافي الذي تعيشه بعض البلدان العربية، وانعكاس ذلك في جبهات ممانعة أو موالاة لهذا التيار أو ذاك ولهذه الحكومة أو تلك، وما يجرّه من انقسامات أحياناً ما تكون حادة جداً بين الفئات المختلفة.
5- وجود هذه التصدعات، حتى في القضايا المفترض أن تشكل إجماعاً سياسياً وثقافياً، يحول دون تشكّل أغلبية مؤثرة، كما في حالة احتلال العراق والقضية الفلسطينية والوضع اللبناني والموقف من الجمهورية الإسلامية في إيران.. إلخ.
هذه العوامل وغيرها لم تحل بالمقابل دون تكوين جماعات ضغط فرعية أكثر تماسكاً وانسجاماً، تحاول لعب دور سياسي بالرغم من ضعف تمثيليتها وعددها مثل المنظمات الأمازيغية والجالية الكردية والتجمعات اللبنانية وبعض التجمعات المغاربية الصاعدة.
كذلك، بدأت التجمعات الإسلامية المحلية تأخذ مكانها بحيث تستجيب لطلب موضوعي يزداد إلحاحاً ألا وهو انتقال المجموعة البشرية العربية الإسلامية إلى حالة تجمع ضغط، باعتبارها تسير رغم كل تناقضاتها وإشكالياتها نحو جالية في طور التكون الثقافي والاجتماعي والسياسي المدني.
جالية قادرة على تأمين التواصل مع المجتمع المحيط وفيما بينها، وتعميق المعرفة بالأصول الحضارية والثقافية، والتمكن من نقل الثروة الذاتية هذه إلى محيط رسم مسبقاً مجموعة أحكام سلبية، زادها شيناً الصورة التي تحاك من تجمعات ضغط أخرى تشعر بالخطر من إمكانية وجودها كقوة فاعلة ومؤثرة في القرار الفرنسي خاصة وأن جزءاً هاماً منها أكثر تقدماً من حيث المستويات التعليمية مقارنة بجنسيات أخرى أو بأبناء البلد الأصليين.
فالمثال الفرنسي يطالب بالانصهار في نموذجه ولا يعترف اسمياً بالمكونات الثقافية المختلفة كجزء من تشكيل الهوية. لكنه في واقع الأمر لم يحل دون تشكيلات أساسية، تترك آثارها على السياسة الوطنية والمؤسسات المختلفة، كما في حالة اللوبي اليهودي واللوبي الأرمني على سبيل المثال لا الحصر.
فإذا ما قارنا بوضع اللوبي اليهودي، نجد هذا الأخير موجوداً بقوة على الساحة الإعلامية والاقتصادية، وعلى المستويات الثقافية والطلابية والدينية والقانونية والسياسية. وذلك رغم توزع الجالية من أقصى اليمين لأقصى اليسار، وبغض النظر عن كون الاندماج في المجتمع الفرنسي ليس منجزاً.
وكأنهم يعملون وفق وصية بن غوريون "الاندماج في المجتمعات التي يعيش فيها اليهود هو أكبر خطر يهدد اليهودية اليوم". مع ذلك، هناك مجلس تمثيلي للمؤسسات اليهودية، كما أن النفوذ اليهودي الفرنسي يبقى الأكبر في أوروبا والثاني في العالم بعد الولايات المتحدة، ما عدا إسرائيل بالطبع.
يبدو لنا أن شريحة واسعة من المجموعات العربية ما زالت ترفض الانصهار، وتتكلم بأحسن الأحوال عن الاندماج الذي يضمن الاعتراف بحق الاختلاف الثقافي. ولو أن البعض يذهب حتى لرفض الاندماج كردّ على الواقع المعاش.
" شريحة واسعة من المجموعات العربية ما زالت ترفض الانصهار وتتكلم بأحسن الأحوال عن الاندماج الذي يضمن الاعتراف بحق الاختلاف الثقافي, ولو أن البعض يذهب حتى لرفض الاندماج كردّ على الواقع المعاش "
أما الخطاب العلماني فيمكن القول إنه محاصر بين مطالبة فرنسية بالاندماج غير المشروط باعتباره جزءاً لا يتجزأ من القيم العلمانية الجمهورية العامة، ومطالبة إسلامية بالانضمام إلى جماعة ثقافية ليست ممارسة الشعائر الدينية شرطاً واجب الوجوب للانتساب لها، بحيث تضيق مساحة حملة الخطاب الفكري النوعي الناقد للأنموذج الفرنسي وللخطاب الديني على حد سواء.
ورغم ذلك كانت وما تزال هناك محاولات لتهميشه من طرف أصحاب الطروحات المتشددة، ومن مؤيدي الخطاب السائد ومروجيه من "عرب الخدمات" على حد سواء.
كذلك لا بد من الإقرار بأنه، وبمعزل عن الدور النشاط الذي لعبته السياسات الحكومية واجراءاتها التمييزية في بعث التطرف عند بعض الأطراف أو تهميش الذات عند أخرى، جزء هام من المسؤولية يقع عليهم فيما آل إليه وضعهم خاصة مع ما يتوفر لهم من فرص للحراك السياسي في المجتمع الفرنسي لمناهضة التمييز والدفاع عن حقوقهم لم يحوزوا عليها في بلدانهم الأصل، وذلك بلجوء البعض لتصرفات انطوائية أو رد فعلية وللتقوقع في وضعية الضحية وتغذية ثقافة الغيتو وتهميش الذات والانفصال عن المجتمع المحيط.
كما أن في نظرة بعضهم للغرب كمجتمع كافر يجب اتقاء شره، مما قدم للتيارات العنصرية المناهضة لهم مادة تستفيد منها لتقليب الرأي العام عليهم، واللجوء لتعميم الجزء على الكل لإنجاز الصورة السلبية عنهم.
فهذه الجماعات العنصرية والتكتلات المتشددة تخاف من اندماج العربي والمسلم في المجتمع الفرنسي. كما تروج لعدم قدرتهم على الاندماج، انطلاقاً مما تعتبره توجههاتهم العقائدية ومواقفهم الدينية. أو كذلك لاعتقادها بعدم جواز الاندماج من منطلق عدم القبول بأجندات تفرض على البلد المستقبل.
لقد أضاع في خضم هذه المعارك الصغيرة أبناء الوسط العربي والإسلامي الكثير من الوقت. كان بالإمكان خلاله فعل الكثير لكسب تعاطف أكبر من طرف المجتمع المدني المناصر لقضاياهم أو الذي يمكن أن يرفض الأحداث التي تجري في بلدانهم.
لكنهم ما زالوا في مرحلة سابقة لتحميل الذنب للآخر وابتزازه على غرار من أجادوا لعبة قلب الحقائق، وتحويل الضحية لجلاد، وفرض رؤاهم بالقوة، والتنصل من المسؤولية في الخراب المعمم، وإشعال فتيل المزيد من الحرائق.
ليس لاقتفاء خطاهم، وإنما لكشف أوراقهم وفضح لعبتهم التي، ولو لم تعد تنطلي على أحد، ما زالت تفرض نفسها على الساحة بالاستناد لمنطق القوة الأرعن.
" أضاع أبناء الوسط العربي والإسلامي الكثير من الوقت في خضم المعارك الصغيرة, وكان بالإمكان خلاله فعل الكثير لكسب تعاطف أكبر من طرف المجتمع المدني المناصر لقضاياهم " وخلال هذا الوقت، تواصل الدول العظمى الإمعان في تقطيع أوصال منطقتهم، ونهب ثرواتها، ومصادرة قرارها السياسي، وزرع الشقاق والفتن بين أبنائها.
ويواصل أزلامها الداخليون توفير المشهد المخزي والمبكي في وسائل الإعلام، وإعطاء المبرر لمن ينتظر فرصة للتحلل من المسؤولية والإعراض عن التسبب لنفسه بآلام صداع.
هذا الواقع لا يقارن بوضع الجاليات العربية في بعض بلدان المهجر الأخرى، وليس الأوروبية بالضرورة التي تنعم بحضور ثقافي مشهود له، وتتمتع بتأثير اقتصادي كبير ومشاركة سياسية على مستوى عال.
حتى إننا نكاد لا نستطيع إطلاق تسمية جالية على المهاجرين العرب في فرنسا كون الحديث عن جالية يفترض تنظيماً اجتماعياً تتوفر فيه شروط من مثل التمثيلية للدفاع عن حقوق الجميع، والتحدث باسمهم أمام مؤسسات الدولة والأطراف المعنية.
وإن كان هناك من هيئات دينية تتكلم باسم المسلمين، فهي ليست متفقة فيما بينها بل متصارعة ومتجاذبة، ولا يرى الجميع بأنها تمثلهم وتنطق باسمهم أو تستشيرهم في آرائهم حول المواقف التي يحبذ اتخاذها.
وقد تفاقم الأمر منذ أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، حيث وجد هؤلاء المهاجرون والمنفيون في بلد الاغتراب ممارسات ومواقف ضاعفت من تشويه صورتهم أمام الآخرين وتجاه أنفسهم.
كما عانوا من ردات فعل أكثر تطرفاً تجاه العالمين العربي والإسلامي دفعوا وما زالوا ثمناً غالياً لها. تجلى ذلك خاصة على صعيد الحياة اليومية من صعوبة توفر العمل حتى لحملة الشهادات العالية، للمعاملة المهينة بالاتكاء على السحنة والإثم في ظل إجراءات قانونية صارمة، إلى صورة سلبية تصرّ بعض وسائل الإعلام أن تعكسها عنهم، وتمعن أخرى في السطحية والتبسيط لما هو أكثر غنى وتعقيداً.
ضمن هذه العلاقة الجدلية بين الذات والآخر، هذه الصورة المنقوصة عن الذات كان لا بد أن تفعل فعلها، مع تضافر الظروف الموضوعية القاهرة سواء في البلد المستقبل أو البلدان الأم. أي المساهمة في ضمور الهوية الثقافية والنشاط الاجتماعي والحراك السياسي للمهاجرين، وحتى تراجع النشاط الفكري.
عزز من ذلك القنوط مما يجري من كوارث على المستوى السياسي في بلدانها الأصل، والإحباط من إمكانية تغيير الوضع في ظل وقع الضربات المتتالية والسياسات المرسومة لتغيير الخارطة بالقوة.
مما أفضى عند الكثيرين لرد فعل من نوع الهرب للأمام، والتعويض بالانصراف لجمع المال -وغالباً ليس أكثر من المحاولة المحمومة لتأمين لقمة العيش- وصرف الأنظار عن الفعل السياسي.
ضمن هذا الوضع، كان لصورة المقاومة المستعادة أن أفرزت منذ الانتفاضة الثانية في فلسطين وتحت الاحتلال الأميركي والبريطاني للعراق وضد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، ورغم كل التعبئة الإعلامية المضادة، تعاطفاً شعبياً عفوياً عند الأغلبية خلق الأجواء للتعبئة السياسية ولإعادة طرح الأسئلة المصيرية الهامة.
وفي الفترة الأخيرة التي سبقت انتخابات الرئاسة الفرنسية في أبريل/نيسان-مايو/أيار 2007، كانت جمعيات من المجتمع المدني قريبة من المهاجرين أو متحدرة منهم قد نشطت بشكل متزايد.
بنوع خاص من أجل حض الشبيبة من أصول مهاجرة على تسجيل أسمائها على اللوائح الانتخابية، وممارسة حق الاقتراع للضغط على القرار السياسي.
استجاب عدد كبير لهذه الحملات وخاصة الجيل الثاني والثالث، ونشطوا في الحملة الإعلامية من أجل سيغولين رويال مرشحة الحزب الاشتراكي المنافسة لنيكولا ساركوزي .
ذلك بفعل تقديرهم لإجراءات الاشتراكيين حينما كانوا في السلطة وعملوا على سنّ قوانين خففت من معاناتهم. كذلك لرغبتهم بتفويت الفرصة على ساركوزي الذي استعمل عندما كان وزيراً للداخلية كلمات نابية بحقهم وشدد من الإجراءات الأمنية التي طالتهم بشدة.
" ااوجود العربي الكمي لم يصبح بعد نوعياً على المستوى السياسي والثقافي, كما يشكو من وجود أفراد تستهوي بعضهم المناصب وتحركهم المنافع الشخصية أكثر منه العمل للجالية " الأمر الذي تُرجم بنسبة عالية ممن اقترع منهم لمرشحة اليسار(64% مقابل1% لساركوزي). وذلك بالرغم من علاقات بعض قيادات الحزب الاشتراكي المعروفة بإسرائيل، مقابل مواقف شيراك الديغولي اليميني التي كانت أقرب لوجهة النظر العربية بخصوص الصراع في الشرق الأوسط.
وكان وعيهم بضرورة المشاركة في الحياة السياسية الفرنسية وعدم البقاء على هامشها، جعل نسبة المسجلين منهم على اللوائح الانتخابية تصل إلى80% أي مليوني ناخب من أصل مليونين ونصف مليون يحق لهم التصويت.
الأمر الذي دفع بمرشحي الرئاسة لتعيين مستشارين من أصول عربية وإسلامية لاستقطاب أصوات العرب. لكن رغم وصول عددهم لخمسة ملايين، لم يشكلوا بعد قوة ضغط هامة. كما لم يوجد منهم سوى عدد قليل جداً على لوائح الانتخابات النيابية التي تبعت بعد شهر الرئاسية، بما يؤثر في القرار بشكل كافٍ.
ورغم الوعود التي قدمها اليمين واليسار على حد سواء للمتحدرين من أصول مهاجرة، لم يصل للبرلمان في المحصلة أي منهم. ذلك أسوة بالانتخابات السابقة عام 2002 التي لم توصل لا عرباً ولا أفارقة للمجلس التشريعي.
سياسة الأحزاب جميعها قضت بإيلاء الأهمية للقدامى الذين يمكنهم ضمان فرصة للفوز أفضل، في حين أن غالبهم كان من الذين تقدموا للمرة الأولى.
باختصار، الوجود العربي الكمي لم يصبح بعد نوعياً على المستوى السياسي والثقافي. كما يشكو من وجود أفراد تستهوي بعضهم المناصب وتحركهم المنافع الشخصية أكثر منه العمل للجالية.
لا بل بدوا كوسيلة لتجميل صورة المرشحين، تم استعمالهم لهذا الغرض أكثر مما استطاعوا تجيير مناصبهم وقوة الأصوات العربية للضغط باتجاه ما تمليه مصالح جالياتهم.
لقد وجد تعيين وزيرتين من أصل عربي في وزارة فييون ترحيباً من كثيرين، خاصة وأن رمزية وزارة العدل ليست بالبسيطة. لكن هذه الخطوة لم تأت استجابة لمجموعة ضغط بقدر ما هي لرغبة في إسكات الأصوات المناكفة، وترجمة موضوعية لواقع سوسيولوجي ثقافي تمثيلي هام للمجموعات العربية والمسلمة في مرحلة تسبق هيكلتها الحركية.
ولا شك أن هذه الهيكلة تتطلب تعزيز العمل الممنهج وتوفير الشروط الأفضل لتأكيد وجود جالية يفترض أن تمتلك، ليس فقط حق الانتخاب، بل المشاركة السياسية والمدنية بكل معنى الكلمة.
إذا لم توحدنا هذه الظروف فمن الذي سيوحدنا؟ لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي </td> <td background="images/myframes/l9.gif" width="1%"> </td></tr> <tr> <td width="1%"> </td> <td background="images/myframes/t9.gif" width="33%"> </td> <td width="1%"> </td></tr></table>